قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم:
﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (سورة الأعراف: 31).
يُعدّ نظام البوفيه المفتوح ثقافة دخيلة نسبيًا على مجتمعاتنا، وأسلوبًا عصريًا في شكله ومضمونه، يمتاز بالجاذبية وحسن التنظيم والمرونة في تقديم الطعام. حيث تُعرض أصناف متعددة من الأطعمة على طاولة مخصصة، ويُتاح للضيف اختيار ما يشاء منها وفق رغبته، دون التقيد بطبق معين، على أن تكون الكمية ضمن حدود معقولة ووقت محدد. ويُنظر إلى هذا النظام بوصفه أحد أشكال الكرم المنظم، الذي يجمع بين حسن الضيافة والرضا العام.
هل له تاريخ ولادة؟
بحسب ما اطلعت عليه من قراءات متواضعة حول جذور البوفيه المفتوح، فإن أصوله تعود إلى فرنسا، حيث اشتُق المصطلح من كلمة Buffet في القرن السابع عشر الميلادي. وكان يُقصد به طاولة تُعرض عليها أصناف متنوعة من الطعام والشراب، ليقوم الضيف بخدمة نفسه بنفسه. وقد ارتبط هذا الأسلوب آنذاك بقصور النبلاء الفرنسيين، واستخدم في الحفلات الرسمية بوصفه مظهرًا من مظاهر التفاخر وأسلوبًا للحياة العصرية.
وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، انتقل هذا النمط إلى بقية الدول الأوروبية، مع إضافة المزيد من مظاهر الترف في تقديم الطعام. ثم شهد تطورًا ملحوظًا في القرن العشرين، حيث انتشر في الفنادق الكبرى، لا سيما خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، تزامنًا مع ازدهار القطاع السياحي في العالمين الأوروبي والعربي، كما استُخدم في الرحلات البحرية الطويلة. وفي العصر الحديث، أصبح البوفيه المفتوح خيارًا شائعًا في المناسبات الاجتماعية، لما يوفره من تنظيم ومرونة وجدوى اقتصادية.
هذه النبذة التاريخية المختصرة تمنحنا تصورًا واضحًا بأن لهذا الأسلوب جذورًا عميقة، تحوّل معها إلى ثقافة عصرية لها قواعدها وأنظمتها الخاصة، والتي لا بد من الالتزام بها حتى لا يتحول الأمر إلى فوضى تُفقده هدفه وجماله.
لماذا لجأ بعضنا إلى نظام البوفيه المفتوح؟
يطرح هذا السؤال نفسه بقوة، خاصة مع انتشاره الواسع في مناسبات الأعراس والولائم وغيرها. وفي تقديري، هناك عدة أسباب دفعت بعض الناس إلى تفضيل نظام البوفيه المفتوح على الأساليب التقليدية في تقديم الطعام، ولعل أبرزها الجانب الاقتصادي، المتمثل في تخفيف أعباء تكاليف المناسبات، ولا سيما الأعراس والحفلات الكبرى، إضافة إلى الحد من هدر الطعام الذي أصبح – مع الأسف – ظاهرة ملحوظة في بعض المجتمعات.
ومن الدوافع الأخرى تنوع الأذواق الغذائية؛ فلم يعد صنف واحد من الطعام يلبي رغبات جميع المدعوين. ويتيح البوفيه المفتوح خيارات متعددة، تُمكّن كل فرد من اختيار ما يناسبه وبالكمية التي تلائمه، مع مراعاة وجود فئات تعاني من أمراض مزمنة، أو كبار السن، ممن لا تناسبهم بعض الأطعمة. كما يسهم هذا النظام في تعزيز المرونة، وضبط الكميات، وتحقيق انسيابية أفضل في التنظيم، والحفاظ على نظافة المكان وترتيبه.
هل فهمنا ثقافة البوفيه المفتوح؟
وهنا يبرز سؤال مهم، ينبغي الإجابة عليه بصدق ودون حرج، وإن كان في ذلك شيء من جلد الذات:
هل استطعنا، بعد مرور سنوات طويلة على انتشار البوفيه المفتوح في مناسباتنا الاجتماعية، أن نفهم ثقافته الحقيقية ونطبّقها بالشكل الصحيح؟
من خلال المشاهدات العينية، وما يُنقل على ألسنة بعض أصحاب المناسبات والمدعوين، نجد أن تطبيق البوفيه المفتوح ينجح غالبًا من حيث الشكل وتنوع الأطعمة والمشروبات، لكنه يفشل في جانب الثقافة والسلوك. إذ تغيب في كثير من الأحيان القواعد الأساسية التي يقوم عليها هذا النظام، والتي يمكن تلخيصها في ثلاث ركائز رئيسة: الكم، والكيف، والوقت.
فالكم يتمثل في الالتزام بعدد المدعوين، والكيف في الالتزام بالنظام القائم على أخذ كميات مناسبة ومحدودة لكل شخص، أما الوقت فيتعلق بتحديد أوقات الافتتاح والإغلاق، بما يضمن نجاح التجربة وتحقيق رضا الجميع.
وتكمن المشكلة الكبرى في فهمنا الخاطئ لمفهوم “الكيف”، حيث يُلاحظ – لدى مختلف الفئات العمرية – سوء التعامل مع البوفيه المفتوح، فتُملأ الصحون بكميات كبيرة ومتنوعة من الطعام، بشكل يفقد كل صنف نكهته، فضلًا عن ترك معظمها دون استهلاك. وينتهي المطاف بهذه الأطعمة في حاويات القمامة، في مشهد مؤسف لا يليق بقيمنا الدينية ولا الاجتماعية.
ولا شك أن هذا السلوك يؤدي إلى خلل واضح في نظام البوفيه المفتوح، ويُحرج أصحاب المناسبة أمام ضيوفهم، عندما يجد القادمون قدورًا فارغة، وفوضى عارمة، ومشهدًا لا يسر الناظرين.
في الختام، لم يلجأ البعض إلى نظام البوفيه المفتوح إلا رغبة في تخفيف تكاليف المناسبات، ولا سيما الأعراس التي أصبحت تشكّل عبئًا يثقل كاهل المقبلين على الزواج، إضافة إلى تحقيق مقصد الإطعام بصورة تضمن للمدعوين حرية الاختيار من بين الأصناف المتاحة. كما أن حسن الضيافة وإدخال السرور على قلوب الضيوف يبقى من أعظم صور الخير، متى ما التزمنا بالاعتدال وحسن السلوك.
وألتمس العذر من القراء الكرام إن بدا في هذا المقال شيء من الصراحة أو التجاسر، فهو موضوع قابل للنقاش، مع كامل الاحترام لجميع وجهات النظر، سواء اتفقتُ معها أو اختلفت، إذ يبقى الهدف الأسمى هو الفائدة العامة والرقي بسلوكنا الاجتماعي.



