لأول مرة تمرّ عليّ الدقائق وأنا عاجزة أين أجد مفتاح أفكاري؟ أشعر بأن الكلمات تقف عندها، وتحتاج إلى ترويض، فهي متناثرة، تلسعني بالألم مرة وأخرى تجسّد ذكرياتها أمامي. لا أعلم كيف ولماذا نكتب عن الأخيار من النّاس إلّا بعد أن نشهد جنائزهم فوق الأكتاف؟!
سألتُ نفسي: هل تحتاج تهاني الشّلب إلى مقدمة طويلة لتحثّني على الكتابة؟ حقيقةً أنا أعتبُ على الموت كثيرًا. دموعي التي انزلقت برفق أمام هيجان دموع (فاطمة) جعلتني أُطيل التفكير في ابنتها، فقد دخلت في حمى الله تعالى بعد أن غيّب الموت والديها، وما أظنها خرجت من ذلك الحمى.
ربما وجدتُ مفتاح أفكاري وكيف أبدأ الحديث عن (أم فاطمة) تهاني الأم الرائعة، وكيف لقلمي أن ينسى مشاهد الوفاء لابنتها بالأمس، وهي ترتمي عند رأسها وتخرج أنفاسها الصرعى، ثم تذهب لقدميها وتستسلم للفراق مثل استسلام طفل رضيع صارع البكاء ثم أخلد للنوم على صدر أمه.
كان ظهر الأمس حافلًا بالألم والبكاء، نبتهل لله تعالى ألّا ينطفئ ذكرها، وحاشا أن يكون ذلك، فأثرها باقٍ، وبصمتها ما زالت محفورة في كل مكان ترتاده، وما كانت ترتاد (أم فاطمة) إلا مجالس ذكر الله، وتستلذ بالاستغفار، وتجد راحتها في مجالس أبي عبدالله، لذلك كان أثرها جليًّا يُزهر بالخير والبركة.
وما رأيته في (أم فاطمة) رأته الكثيرات، وكأن هذه الكلمات نُظمت من أجلها:
وَكُنِ فِي الطَرِيقِ عَفِيفَ الخُطَىٰ
شريفَ السِمَاعِ كَرِيمَ النَّظَرِ
وَكُنْ إِنْسَانًا إِنْ أَتَوْا بَعْدَهُ
يَقُولُونَ مَرَّ وَهَذَا الأَثَرُ.
فقدنا بالأمس ريحانة المسجد المؤمنة الحاجة (تهاني الشلب، أم فاطمة).
هذه المرة اختار الموت واسطة العقد في مسجد العباس بعواميتنا.
لقد سجّلت حضورًا مهيبًا في مناسبات مختلفة لا حصر ولا عدّ لها، لذلك كانت أذناي بالأمس تسابق عيني لسماع كلمات الثناء والمديح في شأنها. قد يغيب الموت الأخيار ولكنهم باقون في قلوب الجميع، هم غائبون عنّا لكنّهم يبتهجون في منازلهم الجديدة، فما شهد الجميع عن فقيدتنا إلا كلّ خير وإحسان ومحبة للنّاس، صنعتْ لنفسها الخير الكثير ومضتْ طوعًا لإرادة ربها.
فما أعذب أحاديث الموت لكِ يا (أم فاطمة)!!
أدرتِ ظهركِ للدنيا ووجهكِ للآخرة بأجمل حلّة.
لقد طال سكوتي، كنتُ فقط أتلو آيات الله ترحّمًا عليها، ولم يسكت الجميع، فلوعة الفراق صعبة، والموت قاهرٌ عجيب. لقد استدرتُ بغتةً نحو الباب المفتوح الذي سوف تخرجُ منه (أم فاطمة)، لكنّني لمحتُ فاطمة واقفةً عند الباب وهي تودّع أمها لمثواها الأخير بمشاعر رُسِمت بجميع ألوان الحزن، تُحيطها هموم الحياة، كما يقول الشاعر مسعود سماحة:
لِكُلِّ أَمْرِئٍ هَمٌّ يَسِيرُ وَرَاءَهُ
وَيَتْبَعُهُ فِي عُمْرِهِ كَخَيَالِهِ
ونحن ننعي فراق (أم فاطمة) لا بد أن نتذكر كيف مضتْ هذه المؤمنة بعد أن أنشأت جسرًا يربطها بالآخرة، فكانت خير قدوة لنا، آمنتْ وصدّقتْ بالابتلاء الإلهي ووضعته نصب عينيها، فما خنعت واستكانت، وأكملت الطريق بيقين وحسن الظن بالله تعالى لا يفارقها.
يقول الشاعر معروف الرصافي:
وما المَرْءُ إِلَّا بَيْتُ شِعْرٍ، عُرُوضُهُ
مَصَائِبُ، لَكِنْ ضَرْبُهُ حُفْرَةُ القَبْرِ
تبكيكِ يا عزيزة القلوب طرقات المسجد وأعتابه، رفقًا بأحبتك يا صاحبة القلب الحنون والكلمة الصادقة، يا صاحبة الابتسامة المشرقة.



