21 , أغسطس 2025

القطيف اليوم

يومُك وَضَعَ حملَه وأيامُ ابنك حُبلى آتية

تبدأ حياتنا بعد الولادة بحالة ضعف نحتاج مَن يرعانا، وبعد شهور نزحف فنُفرح الأحباب، ثم نحبو على أربع بين ضحكات الكبار والصغار، ثم نمشي على اثنتين، وعندها تحلو بشارة الجيران والأصحاب. خطواتنا تشتد ركضاً حتى إذا بلغت ذروتها عاودت الانحدار نزولاً إن طال بنا عمرٌ إلى حيث بدأنا وأرذل العمر، أو قبلها متنا دون إكمال.

{ عمرنا أشبه بساعات يوم: نخرج من ظلمة بطن الأم كشروق شمس سارت حتى منتصف نهارها وقت الزوال فاكتملت “كذلك العمر”، أعقبها عودٌ على بدء فأفول، وانتهت بغروب، ونحن بإدخال في ظلمة قبر دون رجوع }.

تتخللها حواجز ومعوقات وما لم يكن في الحسبان، بعضها يغيّر الخريطة المرسومة في أفكارنا قبل تنفيذها. نصيب نخطئ ويكون أو لا يكون، فتحسمها المواقف من مستجدات وتطورات ومفاجآت.

تتعدد الأدوار، فبأي قلم نخط؟ كيف ندون رواية؟ كيف نوثق قصة أو نصحح خطأ؟
بالعزيمة نتغلب على الصعاب بقراءة ما حولنا وتجارب سبقتنا، وبمتابعة قنوات تنوّع بثها نصل إلى الهدف المنشود.

فإما خيبة أمل واستسلام مبكر لفشل، أو إصرار لتحقيق نجاح، وهو ما نطلبه. فإذا انتصرنا على المتربص حققنا ما خططنا، وقهرنا المستحيل، وكتبنا حياة بأنامل من ذهب. وإن غلبنا أو غُلبنا فإلى البديل الذي يأتي متأخراً مخالفاً لما رسمناه، على أن يكون العوض، ولا يُستبعد أن يكون الأسوأ، وحينها نرسم بأعواد جافة على صفحات كاتمة، والأحداث تشهد.

المقياس هو كيفية التعامل مع ما حولنا، مواكبة العصر، شطب جزء من الماضي، أخذ جواهر الحاضر، عدم اليأس، ومقارعة الإحباط مرة ومرات حتى تحقيق الغاية.

(من سنوات قرأت أن سيدةً بريطانيةً تقدمت للحصول على رخصة قيادة سيارة، فشلت تسعاً وأربعين مرة، وفي الخمسين نجحت وحصلت عليها. ومن قريب نُشر عن امرأة في السبعينات حصلت على شهادة البكالوريوس).

الطموحات لعبت دوراً فنياً أساسياً مهماً للنهاية. كلنا عنده حب الأنا، يسعى للبقاء بعد الموت، ولا يقبل أن يكون الغير أفضل منه. ولهذا يحرص الآباء على تربية الأبناء كما هم، ويحددون مستقبلهم، لكن “القضبان تحرف القطار عن مساره”.

الأمس لا يناسب اليوم. زمان كنّا نستخدم الجِمال لنقل البضائع، والأريل لاستقبال إرسال المحطات المرئية، ومروحة الخوص للتبريد، إلى أن أصبحت هذه من التراث، وُضعت في حدائق المنتزهات، وتُزين بها أسطح المنازل وتُعلق على الجدران.

{ يومك وضع حمله، عُرف المولود وسُمي، حُدد مصيره، ويوم ابنك لا يزال في انتظار ماذا يلد }.

العالِم يتمنى أن يكون ابنه عالماً، وكذلك الطبيب والمهندس والتاجر والمزارع. إن حالف البعض الحظ خابت آمال آخرين، فما أنجح هذا لا يصلح لذاك. وبنظرة شاملة لا يُعتبر هذا فشلاً، لأنها مجرد نظرات وتزاحمات وتقاليد، لا حقيقة مفروضة.

ربما اختيار المُوجَّه خير من المُوجِه. علينا أن نتنبه إلى تطلعات أبنائنا وندرسها بدقة. منا البسيط في مستواه العلمي والفكري، ولا دراية له برغبات ابنه، فلا يعطيه حرية التعبير، أو يجبره على تخصص يصعب عليه.

أنت لا تجيد القراءة ولا تنشئ جملة مفيدة، وتريد من ابنك حتماً عميداً في الأدب أو مجالاً نادراً! وإن تعثر في وسط الطريق حملته نتيجة أنت مَن أسس لها، وصببت عليه غضبك. لماذا؟ لا تُلح أن يكون كما أنت، اتركه وما هو، فإن استشارك فأشر، أو ارشده لأصحاب الشأن ليدلوه لما يناسب مستوى إدراكه.

(من لا يجيد قيادة مركبة كيف تأمنه ربان سفينة أو قائد طائرة أو أن يفتح قلب إنسان؟).

نحن في مدرسة. لا غرابة ولا عجب أن نشاهد ابن القاضي حلاقاً، وابن العامل تاجراً، وابن الفلاح مستشاراً، وحاد النظر لا يقرأ، ومكفوف البصر بنك معلومات. الكل موجه لما وُفق له.

{ ليس دوماً بالضرورة كما يقال “ابن البط عواماً”، لكن قد نرى ابن الكناس أكاديمياً، وابن بائعة على رصيف في صنعاء أشهر أطباء مستشفيات لندن، وابن راعي أغنام رائد فضاء }.

حتى نحقق ما نرغبه علينا إتاحة الفرصة للاختيار الأمثل، ولا يتأتى ذلك إلا باستقراء توجهات المعنيين، وترغيبهم وتشجيعهم والوقوف معهم فيما يحبون، لا خلاف على هذا.
وفيه، لا إجبارهم على ما يكرهون.


error: المحتوي محمي