
من الأشياء التي استلطفتُها أول زيارة لدولة العراق، عام 1388 هجرية، في طفولتي، منظر السقائين يبيعون الماء. رجال يحملون على أكتافهم جرارًا صغيرة وكؤوسًا معدنية، ينادون على المارة: سبّلها، سبّلها، يا زائر، جرة الماء بنحو 50 إلى 100 فلس. آنذاك كان الدينار العراقي يساوي تقريبًا عشرة ريالات، أي أن قيمة جرة الماء نحو ريال واحد. يسقي البائعُ من يريد الماءَ مجانًا بعد تسبيلها!
لست متأكدًا؛ أظن أن هذه العادة توقفت لتوفر الماء الصالح للشرب في الأماكن العامة! ثقافة سقي الماء ثقافة إسلامية - وإنسانية. حث الدين الإسلامي على سقي الماء للإنسان والحيوان. يروى من قول رسول الله صلى الله عليه وآله: "إذا كثرت ذنوبك فاسقِ الماءَ على الماء". ابحث بنفسك - القارئ الكريم والقارئة الكريمة - وتجد وصايا إسلامية كثيرة جدًّا في ثواب سقي الماء.
صيفنا حارّ جدًّا وطويل! ماذا نفعل؟ لا ننسى أن نسقي أنفسنا أولًا، ثمّ ما نملكه من زرع وحيوان، دون الإخلال بالبيئة. نسقي من يطلب الماء؛ عابرَ سبيل، عاملَ نظافة، أي إنسان يطلب ماءً نسقيه!
السبيل هو وقف خيري لسقي الماء العذب مجانًا رغبةً في الأجر والثواب، في أماكن عامة مثل المساجد أو المدارس والطرقات. يذكر التاريخ أن "سقاية الحاج" قبل الإسلام كان منصبًا مهمًّا، يضاهي منصب سدانة الكعبة، إذ كانت حاجة الحجاج في أيام الحج إلى الماء في تلك الأرض القاحلة التي يقل فيها الماء، حاجة ماسة تعطي "سقاية الحاج" أهمية خاصة، من يشرف عليها كان له منزلة اجتماعية نادرة، لأنه يقدم للحجاج خدمةً حياتية عظيمة.
الماء في نسخته الأولية - جزيئات H2O - يغطي 70% من كوكب الأرض إلا أنه أصبح يباع في قوارير بلاستيكية تكلف مالًا! لذلك أنت أخي الكريم وأختي الكريمة، إذا كنت في مجلس أو حفل زواج، أينما تكون، ورغبت في الماء فلا تشرب من القارورة قليلًا وترمي الباقي! أنت ترمي شيئًا ثمينًا!
بداية نطفتنَا التي تولدنَا منها ماء. الماء في كل الكائنات الحية - سواء أكانت النباتات أم الحيوانات {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}. نحيا بالماء، نشربه ونسقِيه من يحتاج. عندما تبلل جوفكَ بالماء في يوم صيفٍ طويل تعرف دقة جواب الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام عندما سأله أحدهم: ما طعم الماء؟ فقال الإمام أولًا: "سل تفقهًا ولا تسأل تعنتا" ثم أضاف: "طعم الماء طعم الحياة"!
عن الإمام زين العابدين عليه السلام: "من سقى مؤمنًا من ظمإ سقاه الله من الرحيق المختوم". رحيق مختوم: شراب أصليّ، نقيّ، غير مغشوش، متميز عن كل الأشربة، فيه رائحة مسك، أشهى من العسل، لا يستطيع وصفه وصفًا دقيقًا إلا من جربه!
في المرة القادمة إذا سألك أحد: ما هي صفات الماء الفيزيائية؟ لا تقل هو سائلٌ شفاف عديم اللون والطعم والرائحة! هو سائل الحياة الذي تقاتلت عليه ومن أجله -ولا تزال- أممٌ ومجتمعات. من يحوزه يملك الدنيا بأسرها!
ونشرَب - إن وردنا الماءَ - صفوًا ** ويشرب غيرنا كدرًا وطينا
ــ عمرو ابن كلثوم.