
تتزاحم الوجوه وتتنكر فيه النوايا، تظل الحقيقة أعمق من الأوهام و الفتنة وأشد وقعًا من الكلمات. بين أصدقاء كنا نظنهم ملاذًا، تعلّمت أن ليس كل ظل يشبهك يعني أنه منك، وأنه أحيانًا يكفي حرفٌ واحدٌ ليُفضح الخيانة، وينير طريقك للخلاص.
“ليس كل ظل يُشابهك يعني أنه منك… أحيانًا يكفي حرفٌ واحد ليُفضح خيانتك.”
ظِلٌّ مألوف
لم يكن وديعًا ولا عدوانيًّا… كان يشبهك.
يصافحك بيمناه، ويمسح سكينه بيسراه، ثم يُقسم أنه لا يعرف الطعنة.
كنتُ من أولئك الذين لا يُحسنون الاشتباه، أصدّقُ الوجوه الطيبة، وأمضي مع من يضحك، وأهزّ رأسي حين يقولون إن النوايا لا تُرى.
لم أكن أعرف أن بعض الوجوه لا تحتاج إلى أقنعة، لأنها خُلقت بملامح تخدع أكثر من ألف قناع.
قصتي؟
سأرويها كأنني أكتبك. نعم، أنت… حين صدّقت شخصًا يشبهك، لكنه لم يكن يومًا منك.
كنا ثلاثة.
أنا، و”طيف“، وشيء لا أعرف له اسمًا، لكنه كان يجلس بيننا دائمًا، كظلٍّ لا يُفصح عمّن يتبعه.
”طيف“ كان كل ما يبدو عليه الإنسان الجيّد: بشوش، كريم، مُحب للضحك، يقدّم لك النصح كأنه يقدّم لك عُمْرًا إضافيًا على حسابه.
وكنت أُحبّه كما يُحب الطفل حقيبته المدرسية رغم ثقلها، ويظن أن كل شيء فيها صالح.
كانت أحاديثنا عندما نلتقي، تُمطرني بارتياح عميق. كأنني أتنفس مع رجلٍ يعرف كيف يكون الضوء في العتمة.
كنا نخرج كثيرًا ليس خروج في الخارج بل في خلجات أفكاري أيضا. نمشي، نضحك، ونحلم.
وحين كنت أتكئ على كتفه، كنت أظن أنني أتكئ على الزمن، لا على عدوٍّ يرتدي حناني ونبضي.
كل شيء كان طبيعيًا… حتى بدأت أختنق بلا سبب.
شعور خفي بأن هناك من يسحب الهواء من حولي ببطء، كلما اقتربت منه أكثر.
حتى ضحكاته … بدأت تصير مدبّبة. وكلماته … مُبطّنه!.
ثمّ حدث ما يشبه الغثيان.
كلمة خرجت من فم صديقٍ قديم ذات مساء:
– “حذاري من طيف… إنه يقترب فقط ليرى أين تضع كنوزك.”
ضحكت.
قلت لنفسي إن بعض الناس يمرضون من الحُب، فيتهمون المُحب.
لكني لم أكن قد انتبهت… أنه يعرف أكثر مما كنت أقول، وأن أفكاري صارت تُروى قبل أن أنطق بها، وأن خطواتي تصل أحيانًا إلى غيري قبل أن أتحرك بها أصلًا.
فجأة… بدأت أخسر.
فرصًا، علاقات، كلمات قُلتها في سرّي ظهرت في مواضع غريبة، وخيوط كانت بيدي، امتدت إلى أحدهم دون أن أعرف كيف.
وفي كل مرّة، كنت أراه بقربي، يمسح على كتفي قائلًا:
– “كل شيء سيكون بخير… أنا معك.”
حتى أتى اليوم…
حين فتحت رسالة أُرسلت بالخطأ، وقرأت جملةً باردة كجدار سجن: “دع الأمور تسوء أكثر… حتى يسقط وحده، وسأكون هناك لالْتقاطِ ما تبقّى.”
ولم يكن توقيع الرسالة ظاهرًا، سوى حرفٍ أوّلٍ من اسمٍ لا يحتاج إلى شرح، لأن من عرف طيفًا… يعرف من يكون.
وكانت مرسلة من ”طيف“ إلى من لا أعرفه.
لكني عرفت، دون حاجة لأدلة… أنني لم أكن أتكئ على الزمن، بل على عدوٍّ يُشبهني… لكنه لم يكن يومًا مني.
هل بكيت؟ لا.
لكن شيئًا داخلي انطفأ، ليس حزنًا، بل دهشةً.
دهشة أن أقرب من ظننتهم ذاتي، كانوا أكثر غرباء عليّ من عابرٍ لا يعرف اسمي.
تعلّمت بعدها أن الطعن لا يؤلم من الظهر فقط، بل من الضحكة أيضًا ومن حس الكلمة ونبرتها أحيانًا أخرى.
وأن بعض الظلال… مألوفة حدّ الخديعة.
ومنذ ذلك اليوم، بدأت أختار من أقترب منه، لا بصفاته، بل بسُلوكه حين لا يراك.
فالشبيه… لا يعني دائمًا المُنتمي.
وقد يحمل من يُضحكك، سيفًا بين ضروسه.
وما زلت حين أرى أحدهم يُشبهني أكثر مما يجب…
أبتسم، وأقف على مسافة كافية لئلا يُجرّب فيّ سكينه.